Saturday, March 1, 2008

الدون كيخوتــه (مقال)ـ

نظرة اخرى للدون كيخوته
يعد دون كيخـوته او دون كيشوت كما تعود نطقها خطأ القارئ العربى بسبب هذا التفاوت بين حروف الأسبانية والإنجليزية مع سنشو ودون خوان وفاوست وهاملت وراسكولينوكوف من اهم الشخصيات التى حملها لنا الأدب العالمى ،بل تعد هذه الرواية بالذات لمؤلفها ميجل دى ثربانتس واحدة من اهم اربع انتاجات الأدب العالمى وهم "الإلياذة" و "الكوميديا الإلهية" و "فاوست" ، والشئ الغريب ان الدافع الأساسى عند كتابة ثربانتس هذه الرواية جاء مختلفا تماما عما بدا من ظاهرها وتفسيرها لدى الكثير في انها تمجيد للبطولة والفروسية والمثالية او بمعنى آخر البحث عن اليوتوبيا.. هذه المدينة التى كانت حلم افلاطون الأعظم ومشروعه القومى وعاش حياته يدعو لهذا الوهم .. كما عاش النبيل كيخوته يدعو اليها بسيف خشب، لم يكن دافع ثربانتس في رائعته إلا التهكم وتحطيم هذا النوع من كتب الفروسية التى انتشرت انذاك في اروبا بما فيها من اسلوب مفتعل وما تحمله من زيف واكاذيب وخيال جامح وخلق لمواقف تنتمى الى اللامعقول وهذا بالإضافة الى الصدف الغير منطقية، وكان هذا ضد اراء ثربانتس في الأدب والذى كان يرى انه لابد ان يكون محكوم ومحدد في اطار الواقع والطبيعة وان يكون بعيدا عن هذه الشطحات اللامعقوله.. ربما كان ثربانتس يميل لتيار الواقعية في الأدب والتى تفجر بعدها بأعوام كثيرة على يد المبدع بلزاك ولقت هوى في نفس كبار الأدباء امثال هيمنغواى والبرتو مورافيا وجان بول سارتر..هذه الواقعية التى وصلت الى حد الصدمة من جرأتها وما سردته من قصص تدور احداثها في مخادع بنات الداخلية،ولعلها لقت هوى في نفس ادباء عرب ايضا كالمازنى في قصته "ثلاث رجال وامراءة" ولكنهم تقهقروا نظرا للنقد الشديد الذى انهال عليهم من رجال دين قبل نقاد.. ولعلنى كنت ولازلت من المتأثرين بهذا التيار في كتابة القصة بل في الأدب عموما، وهذا ما تجلى واضحا في قصتى "لست ملاك" والتى عُرضت منذ شهور قليلة في منتدى القصة والرواية وربما يكون هذا التيار صادم للقارئ..ولكن بدون الصدمة لن يفيق المجتمع ، فما يفيد ان اكتب عن رجل مستحيل يمتلك قدرات خارقة للطبيعة وقدرات خاصة في الإفلات من المواقف الصعبة،فالأدب في الأساس هو مرآة المجتمع التى ترصد العيوب قبل المميزات، وما تملكه كتب الفروسية من خيال جامح وفقدان شديد لهذه الواقعية جعلها تلقى اقبال رهيب وانتشار حتى اصبحت ظاهرة تُقلد، مثلما حدث في قصة "اماديس الغالى" والتى ظهر بعدها قصص كثيرة على نفس المنوال طبعت منها طبعات شعبية كان لها تأثير سلبى على عقول الناس، مما جعل احد كبار المفكرين في عصر النهضة الأسبانية وهو لويس فيفس بشن حملة ضدها لما خلفته من اثار في عقول الناس، بل والمضحك ان اثارها امتد الى واحد من كبار الأدباء في هذه الفترة هو لوبه دى فيجا حتى انه قال مدافعا " الذين يسخرون من كتب الفروسية..هم على حق اذا كانوا ينظرون لها فقط من الظاهر" ، ونعود لرائعة ثربانتس دون كيخوته او دون كيشوت كما متعارف عليها ،ما يؤكده بعض النقاد ان ثربانتس صادف مجنونا فتأثر به الى الحد الذى جعله يكتب روايته مستلهما هذا المجنون في دور كيخوته ليجعل منها صورة ادبية تعكس كل سلبيات عصره من اجتماعية الى سياسية مرورا بالأدب والأخلاق ، ففكرة الرواية تقوم على دون كيخوته وهو نبيل من نبلاء اقليم المنتشا قرأ مجموعة لابأس بها من قصص الفروسية والتى أثرت على عقله بطريقة عكسية وعلى طريقة روبن هود ولكن بشكل ومسلك آخر..قرر هذا النبيل ان يقضى على هذا الشرور المستفحل في العالم ويحوله الى يوتوبيا افلاطون، فما منه إلا ان صنع سيف من الخشب وخوذه وخرج مع خادمه سنشو في مغامرة عظيمة..(من وجهة نظره طبعا) حتى يحرر العالم من اخطاءه ويقيم عاصمة اليوتوبيا بديلا،وكان قد اعطى وعد لسنشو ان يمنحه بلدا ليحكمها وحده ..وفى احدى البلاد التى ارتحل لها كيخوته خدعوه فقالوا.. حتى تصبح فارسا مغوارا لابد ان تُضرب على قفاك واستجاب صاحب السيف الخشب وترك لهم قفاه حتى يصبح فارسا بينهم، ويبدوا انه اعتنق الفكرة الى الحد الذى جعله يحذر خادمه من ان يتتدخل دفاعا عنه لأنه لايصح ان يتتدخل الخدم في معركة بين الأشراف والفرسان النبلاء ،وطمئنه سنشو قائلا لو قتلوك امامى لن اتدخل..اطمئن ، وكان كل معركة يدخلها الدون كيخوته يخرج منها مهزوما مكسور الوجدان مصطحبا بلطمات على الوجه والقفا وسائر الجسد وكسر للسيف الذى يلوح به امامهم، وكانت قمة معاركه الهزلية سخرية، معركته مع طواحين الهواء عندما شاهدها واعتقد انها الأعداء وقد قاموا بسحر انفسهم في صورة طواحين الهواء حتى يخدعوه ، ولكنه الفارس الشجاع الذى لا يخفى عليه خافية، فذهب بسيفه الخشب ليقاتلهم ، فتأخذه كل طاحونة الى اعلى ثم تهوى به على الأرض وكان يقوم بعدها لأنه الفارس النبيل الذى لا يهزم ويعود لمقاتلة الطواحين فتتكرر معه المأساة ويقوم من جديد. كانت لهذه الرائعة التى كتبها ثربانتس عام 1606 اثر كبير على الأدباء والذي منهم من تأثر بها الى حد اقتباس مغذاها كما فعل الأديب جوستاف فلوبير في روايته (مدام بوفارى) والتى هى الوجه الأنثوى لدون كيخوته، ولعل هذا التعارض في رواية ثربانتس ما جعلها نموذج رائع للتشويق والإثارة ..فالتعارض بين احوال واعمال مجتمع دون كيخوته وفكرة ان يكون فارس جوال يقوم بمغامرات هدفها تصحيح اخطاء هذا المجتمع وان يكون يد القضاء لتحقيق العدالة الإلهية، وبين شخصية دون كيخوتة وخادمه سنشو .. فكيخوته رمز للشجاعة والمثالية الزائدة التى تصل لحد انه يريد ان يرى العالم بعيون يوتوبيية ، وبين شخصية سنشو خادمه والذى هو على النقيض تماما فهو رمز للجبن والتخازل إلا انه لا يخلو من النزعة الواقعية المنطقية عكس سيده صاحب النظرة الوهمية التى وصلت به الى الجنون.. ولولا هذا التعارض بينهم لما سارت الرواية على هذا النحو وربما ما كانت اخذت هذه الشهرة ولتحولت دون كيخوته الى رواية كوميدية

No comments: