Thursday, May 29, 2008

وكان لصا ( قصة قصيرة )ـ

وكان لصا




انقشعت الغُمة وعاد عباس يتنفس هواء الحرية من جديد وقال فى اعماق نفسه.. الحياة من غير حرية موت ، تنحرق
السجون او تذهب الى الجحيم بدون رجعة ، واقسم فى نفسه ان لا يعود للسجن مرة اخرى .. واخذته قدماه الى طريق طويل ، حيث وقف بغتة يسائل النفس .. من اين ستأكل يا عباس ، وكيف لك شراء ثياب جديدة بدلا من هذه البالية..؟ وشراب البوظة .. كم اشتاق لهذا الشراب اللعين من يوم فارقته الى السجن.. وكم الشوق لنعيمة صبابة ..تلك الساقطة اللعوب ، صاحبة الأحضان الدافئة الزائفة ، والتى لم تعرف الحب عمرها، وندت عنه ضحكة ساخرة عندما تذكرها..إن كل ما يربطها به ، ورقة ماليه ، تصبح بعدها بين يديه كجارية بعثت من ظلمات التاريخ ، ترقص وتترنح وتتدلل وتهبه ما يشاء منهاكأنها عاشقة متيمة بفحولته ، الى ان تنتهى مفعول الورقة المالية ، تعود وكأنها لم تعرفه قبل ذلك .. وكأنها لم ترقص اوتترنح او تتدلل عليه قبل ذلك ، ملعونة تلك النعيمة ، ولكن لا غنى عنها، فالحياة بقسوتها تحتاج لكثير من هذه النعيمة ، ولكن كل هذا يحتاج لمال .. مال كثير ، الثياب والبوظة والنعيمة، اتتسول وانت لا تتقن حرفة فى هذا العالم الأغبر سوى السرقة .. يا الطاف الله ، وسار فى طريقه ضارباكفا بكف وهو يلعن حظه فى الدنيا، وبلعن معه الظروف وابوه .. هذا الأب والمفترض ان يكون قدوة حسنة لأبنه الوحيد .. انه السبب فيما هو فيه الأن .. لقد كان مثله ..لص واورثه مهنة اللصوصية .. ورفض ان يلحقه بالمدرسه .. رفض ان يعلمه .. وقال يومها وهو يشمله بنظرة قاسية ختمها بضحكة كريهه .. ستتعلم معى فى جامعة الحياة ياعباس ، وهى ارقى الجامعات ، وبنفسى سأمنحك الدكتوراه ، ولم يفهم وقتها فحوى كلامه .. لم يعرف انه سيلحقه بعالمه الحقير، وابتسم ساخرا وهو يذكر اول عملية قام بها.. كان وقتها فى التاسعة من عمره .. وفى احد محلات بيع المواد الغذائية ، اتفق معه ابوه ان ينتظر بالخارج حتى يسمع صوت شجاره مع صاحب المحل ، ويدخل وكأنه عميل ليتسلل الى الدرج المخصص بوضع ايرادات البيع ، ويجمع ما يمكن جمعه قبل ان ينتهى الشجار ، كان ابوه لصا خائبا.. لم يرقى الى السرقات الكبيرة .. وعاش حياته لصا خائيا ، ومات شحاذا.. اما هو فقد طور من نفسه وابتكر اساليب جديدة فى السرقة .. فكان يعمل خادما فى بيوت الأثرياء ، حتى يدرس المكان جيدا، ثم يستقيل ولا يفكر فى سرقته إلا بعد مرور ثلاث شهور.. حتى يكون قد نسوه من فى البيت جميعا، وكان يعمل سائقا، عندماكان يحتاج لسياره فى احد عملياته ، وقد وصل به عقله ان التحق يوما بوظيفة عامل نظافة فى احد الفنادق الراقية ، ومن خلال تواجده ، درس البرنامج اليومى لثرية عجوز تقيم فيه ، واستطاع ان يزور غرفتها وهى تتناول العشاء فى مطعم الفندق ، وخرج من هذه الزيارة بمبلغ ضخم ،اخفاه بين الأوانى المهملة فى مطبخ الفندق ، ولم يترك عمله إلا بعد شهرا كاملا من زيارته لغرفة العجوز..ولم يكتشف امره .. وكان الصيف بالنسبة له موسم .. فيذهب مع زميل له فى المهنة ، للعمل كمنقذ من حوادث الغرق التى تحدث على الشواطئ ، وهناك يقوم بزيارة الكبائن المقيمة على البلاجات .. او اثناء اقامة حفلات السمر ليلا بين المصطافين.. حيث يقوم بدور خادم الحفل .. انه تاريخ طويل ، وحيل كثيرة ، واموال كثيرة اكتسبها من هذه المهنة ، ولكنها كما تجئ كما تذهب ، مبذر.. مُصرف الى حد السفه .. ثياب من افخر الأنواع .. خمر.. نعيمة ، كانت فى يده اموال كثيره.. نصفها ذهب لأجل نعيمة وحدها.. صاحبة الأحضان الدافئة الزائفة .
وامتد بصره الى الخلاء فى نظرة بائسة تنم عن امل مفقود.. وابتسم في نفسه وهو يتذكر هذا الطموح الذى تملك منه يوما .. طموح بأن يُكون شكل جديد فى عالم الإجرام .. يقوم على اسس ومبادئ ونظام ، ولتكن اول مافيا عربية تكون زعيمها انت ياعباس .. ولكن بشرط العدالة ، فلا ظلم ولا عدوان بدون وجه حق ، ستكون يد العدالة الإلهية، لاعدالة الحكومات الفاسدة .. ستكون ارسين لوبين ، وتعيد تنظيم الثروات، تلك الأموال الطائلة دون وجه حق ، ستكون رصاصة منك ايذانا بتغيير مسار حياة الكثير .. هؤلاء الذين لا قوى لهم ولا نصير مع اهل الدنيا، وقتها لن تكون مثار النظرات الحانقة.. ستكون بطل قومى وزعيم شعبى يُقسمون بحياته.. سيفكرون الف مرة هؤلاء النوع من اللصوص.. لصوص الخمس نجوم، الذين يسرقون شعبا.. لا افراد قبل اى تجاوز..والنتيجة محسومة بلا تردد.. رصاصة تخرج من مؤخرة رؤسهم ..وان كان حسابهم تأجل فى السماء ، فعباس سيعجل به فى الدنيا.. سيكون سيف الله المسلول ، ومنفذا لحكمه المؤجَل.. كنت ستراهن على حياتك من اجل هذالطموح .. فجمعت زملاء المهنة .. واستفضت فى تفسير نظريتك الجديدة واستعنت بالبراهين .. المافيا فى امربكا..إنها اقوى من الشرطة ..من الحكومة.. لماذا..؟..لأنهم متحدين .. منظمين ، يسيرون وفق قانون خاص بهم وتحت راية واحدة وزعيم يثقون فيه وفى قدراته .. صدقونى سنكون اقوى وستتبدل الأحوال .. كل ما هناك ان تقوى العزيمة ويُطرد الخوف والجبن من حياتنا ، وقتها سيكون اقل واحدا فيكم فى منزلة وزير بكل هيبته وثروته ، صدقونى .. ولم يصدقك احد ياعباس..بل تجلت فى اعينهم نظرات خوف وشفقه فى ان يكون مسك شئ من الجنون ، كانوا جبناء.. وفضلوا ان يكونوا لصوص خائبة ،كأبوك .. هذا اللص الخائب ، انك تعرف هذا النوع جيدا.. سيعشون كما عاش ابوك وينتهون شحاذين ، وما انت يا عباس بينهم.. ؟ انك لن تستطيع ان تقيم مافيا بمفردك .. وانطفأت شرارة طموحك الغريب .. وذبت رويدا رويدا معه ، واكتفيت بالتطوير واستخدام اساليب لم تكن قد استُخدمت من قبل فى المهنة .. ولِما تبخس من قدرك يارجل..؟.. فالتطوير الذى ادخلته ، اصبح منهجا واتبعوه الكثير ممن دخلوا المهنة فيما بعد .. لقد اصبحت استاذا ورائدا فى مهنتك .. او لايكفيك نظرة الإعجاب من شباب اللصوص الجدد.. او لايكفيك انهم يرجعون اليك فى رسم خططهم ووضع توقيعك عليها ايذانا بنجاحها.. وابتسم من كل قلبه وتجمعت الدماء فى وجهه .. عندماتذكر انه رائدا فى مهنته ... وافاق من نهر الزكريات عندما ترامت اصوات من بعيدة وهى تركب الباص ، واستقل الذى جاء بعده متجها الى بيته،
، او على الأدق الى الغرفة المتواضعة التى تأويه ، واكتظت العربه من حوله بالركاب وظهرت امامه الجيوب فى حالة تخمة ، وبدأت اصابعه ترقص فوق كف يده كالثعبان الذى يتراقص عندما يسمع الة النفخ ويهتز معها، وبدأ يستعيذ من الشيطان ويضغط على اصابعه حتى تكف عن الرقص .. ولم تكف ، ومع شدة الزحام اقترب رجل اليه بظهره ونجلى امامه الجيب الخلفى للمنطال، والتى ظهر منها حافظة نقوده .. انه من السهل عليه التقاطها، ليست صعبة على محترف مثله، ولن يشعر احد، ثم تذكر ايام السجن اللعينة وليالى طويله غابت فيها الحرية فاستعاذ مرة اخرى من الشيطان، ثم تذكر شراب البوظة وشراء ثياب جديدة ، وتذكر صاحبة الأحضان الدافئة الزائفة .. نعيمة ، واثناء ذلك اصبح الرجل اكثر اقتراباحتى لكاد ان يلتصق به، وحافظة النقود تتلئلئ امام عينه كإمراة تغريه وتدعوه كى ينالها، ولم يشعر إلا بيده وهى تلتقط الحافظة ليخفيها تحت قميصه، ولم يرى من شدة الزحام أن رجل ما كان يقف جواره ، كان شاهدا على جريمته، وصرخ فيه بقوة..
- اخرج حافظة الرجل يا لص يا ابن الكلاب ..الا ترحموا الخلق حتى فى هذه الأيام المفترجة
والتفت الركاب الى صوت الرجل الصارخ والذى امسك بيد عباس ولكنه استطاع ان بفلت منه بعد ان جذبه للخلف والقى بنفسه من النافذه فى حركة بهلوانية لم تستغرق ثوانى ، وقد اعتاد عليها عندما كان يحدث مثل هذه المواقف ويكتشف امره ، ثم وقف الباص ، واندفع منه الركاب متجهمين فى حنق من هذا اللص الذى يرتكب جريمته الشنعاء فى الشهر الكريم.. واندفع معهم صاحب حافظة النقود
.. رجل اشعث ،تقدم به العمر ذو هيئة تنم على انه موظفا حكوميا.. وقد بدا يلطم على وجهه ويصرخ مستنجدا ومستعطفا جموع الناس..
- اُقبل اياديكم .. اوقفوه .. السلفى كلها فى الحافظة
وسئله راكبا اندفع مع المندفعين وقد رسم على وجهه علامات استياء
- هل المبلغ كبير..؟
وقال صاحب الحافظة فى توسل من بين دموعه الساخنه
-انها السلفى التى حفت قدماى حتى تجئ لأجل مطالب زواج ابنتى وعندما جاءت يسرقها هذا الجبان .. ياالمصيبة..ياالمصيبة..
وقد التحم بكائه بصراخه وصار يهذى بكلام غير مفهوم حتى جلس على الرصيف ووضع رأسه بين يديه وكأنه استسلم للأقدار. .
وتركه الرجل متظاهرا بالجرى مع باقى الركاب .
وبينما عباس في لُهاث يسارع قدمه، اختلس نظرة الى الخلف ، حيث وجدجموع الناس تتزايد بشكل يفوق عدد من كانوا في العربه وكأن كل الحرفيين تركوا حوانيتهم ، والموظفون ذهبوا من على مكاتبهم ، والرجال خرجوا من بيوتهم ليلحقوا بالموكب المهيب للنيل من عباس، واحس بخفقات قلبه سريعة وكأنها تلهث وراء قدميه.. وانعكست في عينه علامات دهشة وخوف، وقال في نفسه
- لعلها الطامة الكبرى لو خانتك قدماك ياعباس وطالوك الغوغاء، والله لسوف تذوق الوانا من العذاب قبل ان يُزج بك الى قسم الشرطة ، والتفت الى قدمه وكأنه يحثها على زيادة السرعة ، ومن خلفه الناس يصرخون.. اوقفوا هذا اللص .
ولا يزال يجرى حتى ترائ امامه شارعا يتذكر خريطته جيدا، وثمة حارة متفرعة منه يعرف كيف يصل منها الى بيته بواسطة طرق ملتوية يخدع بها من خلفه ، ومرق من الشارع، ومن خلفه جموع الناس يصرخون طالبين بإمساكه ، وقبل عبور الحارة تعثرت قدماه بأطفالها يلعبون كرة القدم حتى سقط رغما عنه .. وقد طالته بعدها الأيادى والأقدام بلا رحمة ، وطال زمن الكفوف الهاويه على مفترق جسده ، حتى سمع من بينهم من يقول في حنق..
- اتسرق في رمضان يا حقير ولاتأبه بعظيم جبار
وقال آخر ضاحكا..
- كان عليك ان تنتظر بعد الإفطار
وقال ثالث في تشدد..
- السرقة سرقة سواء في رمضان او غيره
وقال رابع وكان شيخا كبيرا..
- يكفى ما ناله من هذا الضرب،خذوا منه الحافظه وسلموه للشرطه فأمثاله لاتأويهم إلا السجون
وقال خامس في لهجة الفيلسوف . .
- إن الشهر الكريم يحتم علينا ان نعطيه فرصة اخرى للتصالح مع النفس ..فالنفس البشرية بقدر ما تحمل فجورا بقدر ما تحمل تقوى.. ولعل تسامحنا معه يجعله يتعلم الدرس جيدا ويعود الى ربه راضيا مرضيا.. ربما كان الاحتياج قد اضعف ايمانه.. لنعطية فرصة ثانية بعدما يُقسم امامنا ان لا يعود لهذه الفعلة مرة اخرة ورمضان كريم
ووافقه الشيخ الكبير وهو يقول ..
لنعطيه فرصة اخرى .. ربما كان فعلا محتاج ولو انه غير مبرر.. واذا كان الخالق يغفر ويرحم فنرحمه نحن البشر .. رمضان كريم
ومال عليه سادس وكان ضخم الجثه وقال في صوت جاهورى
- اين اخفيت الحافظة يا ولد............؟
وعاد الرجل يردد في صراخ ..
- انطق يا ولد.. ياولد
واتسعت عيناعباس وهو يحدق فيه في ذهول ، حيث وكأنه تبدلت صورته امامه ليجد رجل يرتدى زى عساكر البوليس وكان يصرخ بصوتا جاهوريا..
- عباس.. انهض يا ولد.. ما كل هذا النوم.. انهض يا ولد.. ياولد ...
وقام متوثبا من رقدته والتفت حوله في قلق دون ان ينبس بكلمة، وقد وجد نفسه بجوار اقرانه في زنزانة مظلمة يطل من احد جوانبها نافذة صغيرة تقترب من السقف وقدانبعث منها بصيص من اشعة الشمس
وقال صاحب الزى العسكرى وهو يبتسم ابتسامة سخرية ..
هنيئا لك يا ولد.. الليلة القادمة ستذوق طعم الحرية وعلى سريرك تنام
وقال عباس بعدما وثب من على فراشة وارتسمت علامات دهشة فوق صفحة وجهه..
- ماذا نقول ياشاويش صبيح..؟
وقال الشاويش في حزم ..
- ما سمعته
وكست الفرحة وجه عباس وصرخ ..
- حقا
فوضع الشاويش كلتا يديه على القايش مفتخرا بوجاهته وقال في اقتضاب كأنه سيدلى بمعلومات خطيرة
- صدر امر بالعفو عنك انت ومحروس والولد صابر بمناسبة شهر رمضان..واستطرد بوجه متجهم.. هيا انهض بسرعة ام يصعب عليك ترك زملاءك
ونهض عباس وفى عينه فرحة وفى قلبة غُصة من حلم ليلة الأمس، سرعان ما نساها وهو يودع زملائه
وودعوه في فرحة توارى حسد..
وخرج يتنفس هواء الحرية من جديد، واخذ نفسا طويلا وهو ينظر للسماء في سعادة ، وقال في اعماق نفسه .. الحياة من غير حرية موت ، تنحرق السجون او تذهب الى الجحيم بدون رجعة ، واقسم فى نفسه ان لا يعود للسجن مرة اخرى ، ومن ثم اخذته قدماه الى طريق طويل، ووقف حيث وجد عربة الباص المتجهة الى اقرب ميدان يصل الى بيته، وبغتة ابتسم دهشة .. وقد اتسعت ابتسامته عندما رأى رجلا اشعث ذو هيئة تنم على انه موظفا حكوميا يركب الباص ، وقد كان شديد الشبه بهذا الذى رآه في حلم الأمس .. وسلب منه حافظة نقوده ، ومما زاد من ابتسامته أن رآه يرتدى نفس الملابس التى كان يرتديها في الحلم.. فإنفجر بعدها ضاحكا وهو يضرب كفا بآخر حتى ظن من حوله انه مجنون، واقسم بعدها ان لايركب هذه العربه وربما اى عربه اخرى ، وفضل ان يسير على الأقدام وهو يغنى اغنية من تأليفه بلا معنى على لحن سمعه ذات مرة واعجب به ، واخذ يرقص في مشيته عليها.. حتى اجتاحته رغبة قوية وشوق في ان يرى صاحبة الأحضان الدافئة الزائفة .. نعيمة ، فغير مسار اتجاهه قاصدا بيتها.. ومالبث ان خفتت الرغبة القوية في قلبه ، حتى عدل مساره مرة اخرى الى بيته.. وظل يغنى .


"تمت"

No comments: