Monday, April 14, 2008

ربيع وخريف ( قصة ) ـ

--------------------------------------
لاح في الأفق صمت رهيب اعقبه ذهول عارم وحزن نافذ الى الأعماق الكونية ، تبادلنا النظرات في هلع ، صرخنا في وجهه ، حركناه في قسوة عله يفيق ، سكبنا فوق رأسه الماء ـ لاجدوى .. انقلب الشك يقين .. ترقرقت الأعين بالدموع ، عدنا للصراخ ، انشقت الحناجر ، وانطلقت الأفواه بجملة واحده وكأن بيننا اتفاق مزمع عليها .. اى عقل هذا .. اى عقل هذا يصدق .. ذهب ربيع بلا عودة .. هذا الساخر العظيم تُسدل ستار الحياة عنه بهذه الطريقة الساخرة ..سبحان من له الدوام ـ منذ لحظات كان يلعب النرد صارخا للنادل عن تأخر قهوته ، ضاحكا في سخريته المعهودة علىخسارة منافسه في اللعب اعقبها ببعض الكلمات التى تُلمح بتفوقه الملحوظ في اللعبه ، ثم عاد الصراخ للنادل عن تأخر قهوته ، بعدها القى نكته فاحشة كعادته وضحك كما لم يضحك من قبل الى ان تبدلت ضحكته لسعال متواصل وانقطع بعدها في صمت مع النفس وتذكر القهوة فصرخ في النادل صرخته الثالثة والأخيرة : القهوة يا حيوان ـ وقال لنا في سخط ـ آن لنا ان نُغير هذا المقهى العتيق بآخر راقى .. مارأيكم بمقهى الجزيرة ..؟ انه ارقى بلاشك ، ونادله اسرع في تلبية طلبات الزبائن بدلا من هذا الحمار ، وتذكر ان القهوة لم تأت بعد ، فالتفت مرة اخرى للنادل وحاول ان يصرخ ..لكنه سكت ـ وقعت الواقعة ، ذهب ربيع بلا عودة .. اصبح نسيا منسيا .. وها نحن رفقاء عمره وصحبته حتى في لحظاته الاخيرة نجلس الأن بدونه ، ينهال علينا صراخ احبابه ، نسمع آيات الرحمة والغفران عليه ، نصافح من جاء لأداء الواجب .. وبين انفسنا نبكى في صمت ودهشة ، هكذا الدنيا .. هذا الذى كان معنا بالأمس ، يلعب النرد ويصرخ للنادل ويلقى نكتة فاحشة فيضحك كما لم يضحك من قبل .. هذا الذى كان اكثرنا سخرية واقبالا على الحياة بكل متعها ، ضاحك حتى في احلك الظروف ..سكير لا تفارق الكأس يده .. ساحر نساء ، قدرة فائقة في جذبهن اليه طالما حسدناك عليها يا ربيع .. لا يعرف البكاء لك طريق ، عبثت بالحياة طولا وعرضا .. مغامر كبير ومراهن حتى وان كان على حساب عمرك ..نرشدك للصواب خوفا عليك وحبا حقيقيا لشخصك ، فتضحك ضحكتك الشهيرة المجلجلة وتقول هازئا ـ الحياة لا تؤخذ إلا هكذا .. ولست مثلكم يا عواجيز ، هكذا ردك دائما مع انك تقاربنا في العمر ، لم تكن إلا ضحكة كبيرة تمشى على قدمين ..ضحكة تنطلق ضاربة بعرض الحائط كل قوانين الحياة .. في وقت الحزن تضحك ..ووقت الضحك تسخر ـ لا تدمع عيناك ابدا حتى في المواقف الجلل .. غير مبالى بالاحزان .. سهير كبير ..عربيد كبير ـ اتفقنا كلنا انك ستحيا حتى ارزل العمر من كل هذا الضحك وهذه السخرية وهذه العربدة وهذه اللامبالاه ، كم سردت علينا مغامراتك من النساء حتى كدنا نشعر انك مخادع كبير ، وما احاكيك إلا وهم من نسج خيالك المشر ، حتى جئت لنا بالبرهان والرؤية التى اقتلعت الشكوك من جذروها ، حسناء في عمر الربيع ، فاتنة بمعنى الكلمة ، وقد تشابكت يدك في يدها في صورة العاشقين ، على الرغم من انك تكبرها بربع قرن ، قلت لنا فيما بعد انك تعرفت عليها في ندوة ثقافية ، واقنعتها انك ناشر ولعلك تفكر في نشر ديوانها الشعرى عندما ايقنت ان لديها موهبة فذة في كتابة الشعر ، قد تجعل الناس تعود لقراءة الشعر من جديد ، وصدقتك المسكينة آملة في فرصة حقيقية للنشر ، واصبحت تروح وتجئ معها وتصحبها للسينما وترافقها في الندوات التى تحضرها شهور كاملة ، حتى انكشف امرك وعرفت انك كاذب كبير ولا ناشر ولا يحزنون ، اخبرتنا بعد ذلك انها صفعتك عندما عرفت حقيقة امرك امام الناس ، وضحكت ساخرا وانت تقول .. تهون الصفعة امام الجمال والفتنة يا غجر ، يكفى اننا اجتازنا معا حدود السعادة وحلقنا في الفضاء اللا محدود ولو لأسبوع ولو لأيام ولو لساعات ، فلست انا الذى يهتم بالابدى يا غجر .. وانفجرت ضحكا كعادتك ، ضحكنا كثيرا ياربيع وتعاركنا كثيرا واختلفنا كثيرا واتفقنا كثيرا وحلمنا بالمستقبل والأيام القادمة كثيرا ، ولم يمنع هذا الجنون فيك من الظهور بمواقف جريئة ووطنية تُحسب في تاريخك .. كنت اكثرنا حبا للوطن واكثرنا ثورة .. اى نعم كنت ثائر خطير ، اتذكر في شبابك هذا اليوم عندما قلت والثورة تسيطر عليك ـ " لقد فسد النظام وطغى الحاكم وتجبر وعلينا بردعه .. وآن للثورات الفردية ان تُغير مجرى التاريخ ، وحتى يتغير قد نحتاج لنزق الثوار واحيانا نزق الأطفال " وعقدت حاجبيك لإضفاء ملمح جاد على شخصيتك التى نعرفها جيدا حينما صرخت .. "وانا لهـا " ، وحملت سلاح وعقدت العزم على قتل احد روؤس الفساد وكدت تفعلها بلا اكتراث بالعواقب لولا ان منعناك في آخر لحظة ياربيع ـ حتى زوجتك وام بناتك لم تسلم من جنونك ، تزوجت عليها خمس مرات ، وعندما نرشدك للصواب في كل زيجة ، تقول جملتك المشهورة .. الحياة لا تؤخذ إلا هكذا ، وتضيف .. الإنسان يعيش مرة واحدة ومن حقه ان ينهل من الجمال بكل صورِه مدام الجيب عامر ، فنقول لك في محاولة نعلم مسبقا ان لا جدوى منها ..
- ان لزوجتك عليك حق ياربيع .. لاتنسى ذلك
فتقول وبين شفتيك ابتسامة سخرية
- لا تنسوا مع كل هذا اننى اوفى الأزواج ولكن في حدود المتاح طبعا من العقل ..عقلى انا
ونقول في يأس من عدم اقناعك
- انت تعبث ببيتك واستقرار عائلتك يا ربيع
فتقول متململا
- اسمعوا .. لاجدوى من مناقشة عقيمة لا تسفر إلا عن وجع الدماغ ، قلتم ما قلتم ، وسأفعل ما افعل .. انتهى
ونلقى آخر ما في جعبتنا قائلين
- انت في ضلال مبين ياربيع وفى كل الأحوال ستندم .. فلا تنساق وراء النساء هكذا كما تنساق الإبل والماشية
فتقول وانت تتظاهر بالغضب
- وصلت الى حد الإبل والماشية يا غجر
ثم تتظاهر بالغضب الشديد في اداء مسرحى مضحك وتتركنا ذاهبا ولا تعود إلا بعد شهر وانت تضحك قائلا ..
- طلقتها يا غجر
وبدهشة نسأل
- لِما ..؟ لم يمر سوى شهر !!
- اخذت منها ما اريد واعطيتها ما تريد ، فلماذا الإسترسال ثم انها مجنونة ..مجنونة رقص ، ارهقتنى رقصا وسهر .. انها تريد جين كيلى وليس زوج
- ركبت رأسك وفعلت ماتريد ياربيع وها النتيجة
- النتيجة رائعة يا عواجيز..ولم اندم كما تحسبون .. كفاكم حسد
- نحن نشفق عليك وعلى زوجتك وبناتك من جنونك
- لا اريد منكم شفقة ..ثم من ذا الذى يستطيع ان يقاوم اغراء لا يُقاوم .. انه الجنون نفسه ، وما عهدتمونى مجنونا
- ابدا يا ربيع .. فأنت سيد العقلاء
وضحكنا كلنا بما فيهم انت ، ضحكة كبيرة ونسينا الأمر الى ان فأجتنا في يوم آخر انك على وشك قصة حب جديدة مع فنانة مشهورة ، لم نصدق وحسبنا الأمر مجرد مزاح من صديق مجنون .. ولكنه لم يكن مزاح عندما علمنا انك ستتدخل في زمرة منتجى السينما ، لا لإنك من محبى الفن .. ولكن من اجل سلمى توفيق الفنانة زائعة الصيت ، حتى انك بعت باقى ارثك من الأرض التى تملكها كى تقترب من سلمى وتُقتعها بأنك رجل اعمال و ثرى خطير تريد اقتحام مجال السينما ، وصدقتك الضحية الجديدة ، وانتجت الفيلم ودعوتنا ليلة الإفتتاح ، وفى نفس الليلة اعلنت خطبتك عليها وتزوجتها بعد اسبوع واحد وهى مقتنعة بأنك رجل اعمال وثرى خطير ، وبعد ثلاث ايام فقط اكتشفت الفنانة حقيقتك ، واقسمت انها ستقتلك ان لم تُطلقها ، وطلقتها ، وخسرت قطعة الأرض المتبقية من ارثك وخسر الفيلم ايضا ولم تكسب سوى ثلاث ايام زواج من الفنانة المشهورة .. وانهال عليك النقد بقسوة من عائلتك وعائلة زوجتك ، حتى ان زوجتك طلبت الطلاق بإصرار بعد علمها انك ضيعت آخر ما تملك من ارثك ببيع قطعة الأرض ، والتى كانت المستقبل والأمان لبناتك ، واستطعنا بالتعاون مع عائلتها بأن نجعلها تتخلى عن فكرة الطلاق من اجل البنات ، ومع كل هذه الأحداث لم نر منك ندما او ثمة حزن ظاهر على صفحة وجهك ، بل جلست معنا يومها وان تقول في مرح ..
- اتظنوننى نادم على ضياع الأرض .. هيهات ، ان ثلاث ايام فقط مع هذه الأنثى المشهورة لاتُقدر بأراضى الدنيا كلها يا مغفلين .. يكفينى قبلة واحدة من شفاه سلمى حتى ابيع الأرض والسيارة وفوقهم المنزل ، وان كان على الفيلم اشاهده وحدى ، ويبقى ان انضمت الفنانة المشهورة لقائمة زيجاتى ، حتى ولو كان لثلاث ايام .. اليس هذا في حد ذاته مدعاة للفخر يا صحبة الغم .. ها ها ها
كنت مجنونا ورزينا ، مخرفا وحكيما ، عاشقا للحياة ليس له نظير ، ابن خمر ونساء وعربدة .. ومن كبار رواد الحانات ، ونزيل معظم بيوت البغاء ، ومع ذلك لا تفوت فرض من الفروض الخمسة ، ومع ذلك اديت فريضة الحج خمس مرات ، ومع ذلك لا احد ينكر عطفك على الفقراء ..حتى انك اشتريت يوما منزل جديد على نفقتك لعائلة انهار منزلها وفقدوا على اثره عائلهم الوحيد، بل وخصصت لهم راتب شهرى من جيبك ، ومع ذلك موقفك العظيم اثناء الحرب .. كنت اول من تقدم وتطوع لدى الجيش بالرغم من من انه لم يمض سوى شهر واحد على زواجك من ام بناتك .. قلت يومها ـ لو تخلينا عن البلد وهى مهزومة ..اذن فلا نستحق ان نحمل جنسيتها او ندوس على ترابها .. لك مواقف عظيمة ياربيع مع كل هذا التناقض فيك ـ سخرية وجد .. تدين وانحلال ..احساس بالآخر وانانية ، بإختصار كنت الدنيا ياربيع بكل مافيها .. جنونها وعقلها ، قسوتها وعطفها ، ظلمها وعدلها ..ربيعها وخريفها .
" تمت"

No comments: